الأولى : أقسام الضبط : الضبط قسمان :
ضبط صدر ، وضبط كتاب ، وقد قال يحيى بن معين :” هما ثبْتان : ثبْت حفظ ، وثبْت كتاب” (3)اهـ .
أما ضبط الصدر؛ ففيه مباحث :
الأول : تعريفه: هو أن يُثْبت ما سمعه، بحيث يتمكن من استحضاره متى شاء (1).
وقول من قال : ” متى شاء ” أولى من قول من يقول :” … متى طُلِبَ منه ” وذلك للاحتراز من الطعن فيمن عُرِف بأنه عسر في الرواية، فإذا طُلِب منه الحديث، وأبى أن يحدث به ، فلا يقال : ليس بضابط ، لأنه طُلب منه الحديث ، فلم يأت به ، لأن عدم إتيانه بالحديث في هذه الحالة ليس عن قلة ضبط ، أو عجز ، بل لأمر آخر ، وهو التعسر في التحديث ، ولايلزم من ذلك اختلال في الضبط ، هذا ما ظهر لي من فرق بين الكلمتين ، والأمر في ذلك سهل ، والله أعلم .
الثاني : متى يُشْتَرط ضبط الصدر ؟
الأصل أنه يشترط في حالة الأداء، فإن جمع مع ذلك الضبط حال التحمل وما بعده ؛ فهو أفضل ، وقد يوجد من الناس من يتحمل ولايؤدي ماتحمل، كمن اشتغل بالعبادة والزهد، وأعرض عن التحديث ، فهذا في الغالب يختل ضبطه ، ولايُحتج به، وقد يوجد من يتحمل وهو صغير لايضبط ، ثم يحفظ ماكَتَبَ أو كُتِبَ له ، ويتقن حفظه ، ثم يؤديه من حفظه ، فإن أدّى حال اختلال ضبطه؛ لايُقبل ، وإن أدى حال ضبطه بأخرة ؛ قُبل منه .
الثالث : كيف يتم معرفة ضبط الصدر ؟ يعرف العلماء ذلك بأمور :
1-استفاضة ضبط الراوي بين الأئمة، وهذه الصورة هي أعلى الصور في هذا الباب .
2-تزكية بعض أئمة الجرح والتعديل للراوي بأنه يحفظ حديثه ويتقنه .
3-سَبْر روايات الراوي، ومقارنتها بروايات غيره من الثقات ؛ لينظر هل يوافقهم أم يخالفهم ؟ ويُحْكَم على حديثه بعد ذلك بما يستحق ، كما قال ابن معين : قال لي إسماعيل بن علية يومًا : كيف حديثي ؟ قلت : أنت مستقيم الحديث ، فقال لي : وكيف علمتم ذاك ؟ قلت له عارَضْنا بها أحاديث الناس ، فرأيناها مستقيمة ، فقال : الحمد لله . . . اهـ (2).
4-إذا نصُّوا على أن الراوي ثقة ، وليس له كتاب ، فهذا يدل على أنه يحفظ حديثه في صدره .
5-ومن ذلك قول الراوي عن نفسه :” ما كتبت سوداء في بيضاء ” أو ” ما يضُرُّني أن تُحْرَق كتبي” ونحو ذلك مما يدل على إتقانه لحديثه .
6-باختبار الراوي، وللاختبار صور ، منها :
أ – أن يأتي إليه أحد أئمة الجرح والتعديل، فيسأله عن بعض الأحاديث ، فيحدثه بها على وجه ما ، ثم يأتي إليه بعد زمن، فيسأله عن الأحاديث نفسها ، فإن أتى بها كما سمعها منه في المرة الأولى ؛ علم أن الرجل ضابط لحديثه، ومتقن له ، أما إذا خَلَّط فيها، وقَدَّم وأَخَّر؛ عَرَفَ أنه ليس كذلك ، وتكلم فيه على قدر خطئه ونوعه، فإن كانت هذه الأخطاء يسيرة عددا ونوعا؛ احتملوها له إذا كان مكثرا، وإلا طُعِن فيه.
ومسألة كثرة الخطأ وقلته مسألة نسبية ، ترجع إلى كثرة حديث الراوي وقلته ، فمن كان مكثرًا من أحاديثه الصحيحة، وأخطأ في أحاديث قليلة ؛ احْتُمِل له ذلك الخطأ ، كمن كان عنده عشرة آلاف حديث – مثلاً – وأخطأ في عشرين حديثًا منها ، وهذا بخلاف من لم يكن عنده إلا حديث واحد – مثلا – وأخطأ فيه، فمثل هذا يكون متروكا، أو كمن عنده عشرة أحاديث، وأخطأ في خمسة منها ؛ فهذا يطعن فيه مع أن الخطأ في عشرين حديثًا ،أو خمسين حديثًا، لا يضر من كان مكثرًا، واسع العلم والحصيلة .
إلا أن انظر لا يقتصر على مسألة القلة والكثرة فقط، بل يُراعَى في ذلك أيضاً نوع الخطأ: فقد يكون الخطأ قليلاً، إلا أنه فاحش، فيذهب بحديث الراوي، كما جاء عن الدارقطني أنه قال في الربيع بن يحيى بن مقسم : حَدَّث عن الثوري عن ابن المنكدر عن جابر ، قال : جَمَع النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم – بين الصلاتين ، ثم قال : وهذا حديث ليس لابن المنكدر فيه ناقة ولاجمل ، وهذا يُسقط مائة ألف حديث ” وقال أبو حاتم في “العلل ” : ” هذا باطل عن الثوري ” اهـ (1).
ب – وهناك صورة أخرى لاختبار الرواة لمعرفة ضبطهم ، وهي أن يُدْخِل الإمام منهم في حديث الراوي ما ليس منه، ثم يقرأ عليه ذلك كله ،موهمًا أن الجميع حديثه، فإن أقره وقبله ، مع ما أُدخل فيه؛ طعن في ضبطه ، وإن ميز حديثه من غيره؛ علم أن الرجل ضابط، ومثال ذلك : ما حصل من يحيى بن معين مع أبي نعيم الفضل بن دكين الكوفي (2)ولعل لذلك صلة بالتلقين الآتي في الصورة الثالثة .
ج – ومن صور الاختبار – أيضًا – أن يلقن الإمام منهم الراوي بقصد اختباره شيئا في السند أو في المتن ، لينظر هل سيعرف ويميز؛ فيرد ما لُقِّنَه، أو لا يميز؛ فيقبل ما أُدخل عليه ،فإن ميز؛ فهو ضابط، وإلا فغير ضابط .
ومن قبول التلقين : أن يسأل الإمامُ أحدَ الرواة عن مجموعة من الأحاديث ، أي هل حدثك فلان بكذا وكذا ، وليس ذلك من حديثه ، فإن أجابه بنعَم ؛ عَرف ضعفه وغفلته ، ويُعبِّر علماء الجرح والتعديل عن الراوي الضعيف في مثل ذلك بقولهم : ” فلان يُجيب عن كل ما يُسْأل عنه ” والله أعلم.
د – إغراب إمام من الأئمة على الراوي بالحديث، فيقلب سنده، أو متنه، أو يركب سند حديث على متن حديث آخر، أو العكس ، ليعرف ضبط الراوي من عدمه أو قلته ، ويحكم عليه بما يستحق حسب حِذْقه، وفطنته، وضبطه ، أو غفلته، وعدم فهمه ، وهذا يفعله الشيوخ مع تلاميذهم لمعرفة نباهتهم وتيقظهم ، والعكس ، كما جرى من حماد بن سلمة مع ثابت البناني (1).
وأما ضبط الكتاب ؛ ففيه مباحث أيضًا :
( 7 ، 8 ، 9 ) لقد سبق في كيفية معرفة عدالة الراوي برقم ( 9 ، 10 ، 11 ، 12 ) طري أخرى لمعرفة الضبط أيضًا ، فيُرجع إليها هناك ، والله أعلم .
10- وكذلك يُعرف الضبط بالمذاكرة ، كما قال أبوزرعة : كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث ، فقيل له : ومايدريك ؟ قال : ذاكرتُه ، فأخذت عليه الأبواب ” اهـ(2).
11- بالنظر في كتاب الراوي : فيُعرف اختلاطه – مثلاً – وذلك إذا كانت رواية القدماء عنه مستقيمة ، ورواية الأحداث عنه مضطربة ، فَيُعْلَم من ذلك اختلاطه بأخرة .
بل يُعلم من خلال النظر في الكتاب: هل هو مدلِّس أم لا ؟ فإن كانت رواياته التي صرح فيها بالسماع عن الثقات مستقيمة ، والتي يعنعن فيها مضطربة ، وكذا التي قد يُظهر فيها واسطة ضعيفة، عُلم بذلك تدليسه ، فمن خلال النظر في الكتاب يُعلم ضبط الراوي وعدمه ، والله أعلم .
وأما ضبط الكتاب ، ففيه مباحث أيضًا :
الأول : تعريفه : وهو صيانة الراوي لكتابه منذ أدخل الحديث فيه ، وصححه ، أو قابله على أصل شيخه، ونحو ذلك؛ إلى أن يؤدي منه(3) وذلك لأن الراوي قد يُبتلى برجل سوء : سواء كان ابنًا، أو جارًا، أو صديقًا، أو ورَّاقًا، أو نحو ذلك، فَيُدْخِلون في كتابه ما ليس منه، فعند ذلك يُطْعَن في ضبط الراوي، ويَسْقُط حديثه .
الثاني : الطعن في الراوي بسبب عدم ضبط الكتاب : إنما يكون فيمن لم يكن عنده إلا ضبط الكتاب فقط ، أما من كان عنده ضبط صدر ؛ فلا يضره عدم ضبط الكتاب، إذا حدث من صدره، وإن كان الأفضل أن يجمع بينهما، وكذلك الحال فيما إذا لم يكن عند الراوي ضبط صدر، لكن عنده ضبط كتاب؛ فلا يضره ضعف حفظه إذا حدث من كتابه ، كما أخذ البخاري من أصول ابن أبي أويس (4).
الثالث : كيف يتم معرفة ضبط الكتاب ؟
يُعْرف ذلك بعدة أمور :
1-التنصيص من إمام على أن فلانًا صحيح الكتاب ، أو أن كتابه هو الحَكَم بين المحدثين ، أو أن كتابه كثير العجم والتنقيط، ونحو ذلك مما يدل على ضبطه لكتابه .
2-التنصيص على أن أصل الراوي الذي يُحدِّث منه مُقَابلٌ على أصل شيخه، أو على نسخة معتمدة منه.
3-أن يوافق حديثُهُ الذي يرويه من كتابه حديثَ الثقات، فإن هذا يدل على ضبطه لكتابه، وقد يكون عنده ضبط صدر ، وقد لايكون .
4-التنصيص على أنه لم يكن يُعير كتابه، ولايُخْرِج أصله من عنده؛ لأن فاعل ذلك قد ينسى المعار إليه ،وقد يعيره للمأمون وغير المأمون؛ فيؤدي ذلك إلى إدخال شئ في كتابه، وهو ليس من حديثه ، وقد لا يميز ذلك ، لاسيما إذا لم يكن عنده حفظ وإتقان لحديثه، فيسقط حديثه .
(3)انظر ” تهذيب التهذيب ” ( 5 / 231 ) ترجمة عبدالله بن صالح الجهني مولاهم كاتب الليث .
(1)انظر ” النـزهة ” ( ص 83 ) .
(2)انظر ” سؤالات ابن محرز ” ( 2 / 39 ) اهـ نقلاً عن ” الإرشادات ” ( ص 21 ) للشيخ طارق عوض الله – حفظه الله – .
(1)انظر ” تهذيب التهذيب ” ( 2 / 227 ) .
(2) انظر ” تاريخ بغداد ” ( 3 / 353 ) ترجمة أبي نعيم .
(1) انظر ” الجرح والتعديل ” ( 2 / 449 ) .
(2)انظر ” مناقب أحمد ” لابن الجوزي ( ص 85 ) .
(3) انظر ” النـزهة ” ( ص 83 ) .
(4) انظر ” هدي الساري ” ( ص 410 ) .